الدكتور أحمد راسم النفيس
یقول الله تعالى (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) البقرة/ ۱-٥
الغَيْبُ حسب صاحب لسان العرب: كلُّ ما غاب عنك. ومعنى يؤمنون بالغَيْبِ؛ أَي يؤمنون بما غابَ عنهم، مما أَخبرهم به النبيُّ، صلى اللّه عليه وسلم، من أَمرِ البَعْثِ والجنةِ والنار. وكلُّ ما غابَ عنهم مما أَنبأَهم به، فهو غَيْبٌ؛
فمجرد الإيمان بالغيب أو بالثواب والعقاب الأخروي لا يمكن أن يكون فضيلة في حد ذاتها ترفع من يؤمن بها من مرتبة الإقرار الظاهري بالإسلام إلى مرتبة التقوى والتزكية!!، فالمسلمون وأهل الكتاب يؤمنون بالغيب مع اختلاف المعتقد واختلاط الحق بالباطل لدى هؤلاء،
أيضا لو كان الغيب المذكور في الآية يعني مجرد الإيمان باليوم الآخر لما احتاج القرآن لذكر الآخرة بصورة منفردة (وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ولكانت هذه الكلمات مجرد تكرار دون حاجة للتكرار.
الغيب المذكور في أول الآية (الذين يؤمنون بالغيب) مختلف عن ذلك المذكور في آخر الآية (وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).
الغيب في الآية الكريمة وفي القرآن عامة ضمن ما يعني الغياب وهذا ما ذكره ابن منظور صاحب اللسان (والغَيْبُ ما غابَ عن العُيونِ، وإِن كان مُحَصَّلاً في القلوب).
الغيب وعوالمه هو وجود حقيقي مادي أو معنوى لا يمكن للحواس مجردة أو غير مجردة ومن ثم للعقل التعرف إليه بصورة مستقلة عن إخبار الرسل والأنبياء، وقصارى دور العقل في هذا المجال هو الحكم بالإمكان أو عدم الإمكان.
وهناك إشارة هامة تضمنها قوله تعالى (يؤمنون بالغيب)، فهؤلاء إما آمنوا بالغيب إجمالا أو أنهم آمنوا بشيء ما أو بشخص ما رغم غيابه عنهم وهو ما أشار إليه الشيخ الصدوق في (كمال الدين) حيث قال: وفي قوله عز وجل:
“وإذ قال ربك للملئكة إنى جاعل في الارض خليفة “حجة قوية في غيبة الامام عليهالسلام، وذلك أنه عز وجل لما قال: “إني جاعل في الارض خليفة”
أوجب بهذا اللفظ معنى وهو أن يعتقدوا طاعته فاعتقد عدو الله إبليس بهذه الكلمة نفاقا وأضمره حتى صار به منافقا، وذلك أنه أضمر أنه يخالفه متى استعبد بالطاعة له فكان نفاقه أنكر النفاق لأنه نفاق بظهر الغيب،
ولهذا من الشأن صار أخزى المنافقين كلهم، ولما عرف الله عزوجل ملائكته ذلك أضمروا الطاعة له واشتاقوا إليه فأضمروا نقيض ما أضمره الشيطان فصار لهم من الرتبة عشرة أضعاف ما استحق عدو الله من الخزي والخسار فالطاعة والموالاة بظهر الغيب أبلغ في الثواب والمدح لانه أبعد من الشبهة والمغالطة،
ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: “من دعا لاخيه بظهر الغيب ناداه ملك من السماء ولك مثلاه”.
وإن الله تبارك وتعالى أكد دينه بالايمان بالغيب فقال: “هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب _ الاية” فالايمان بالغيب أعظم مثوبة لصاحبه لانه خلو من كل عيب وريب لانّ بيعة الخليفة وقت المشاهدة قد يتوهم على المبايع أنه إنما يطيع رغبة في خير أو مال،
أو رهبة من قتل أو غير ذلك مما هو عادات أبناء الدنيا في طاعة ملوكهم وإيمان الغيب مأمون من ذلك كله، ومحروس من معايبه بأصله.
البعض حاول أن يحصر الغيب الذي لا يعلمه إلا الله في المذكور في تلك الآية (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لقمان ۳۴.
في حين أن ما ورد في الآية الكريمة لم يرد على سبيل الحصر بل على سبيل الاستدلال، كما أن هذه العلوم لها ظاهر وباطن والغيث لا يعني المطر حصرا بل هي رحمة الله التي يغذفها على من يشاء من عباده وقتما يشاء، وهو سبحانه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) آل عمران /۲۶-۲۷.
الذي نوقن به أن إدارة الصراع بين الحق والباطل منذ بعث الله رسوله بالهدى ودين الحق إلى أن يأتي وعد الله فيظهره على الدين كله، بظهور المهدي الغائب المنتظر،
ولو كره المشركون بيد الله سبحانه وتعالى حيث سنرى عجائب قدرته بادية تقطع الشك باليقين وتزيل الظلمات لتشرق الأرض بنور ربها وأن الجهد والجهاد الإنساني يمثل جزءا من إدارة هذا الصراع، لكن الجزء الأكبر بيده سبحانه (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) الرعد/٢
لو كان لدى هؤلاء شك فيما نقول فليقرأوا قوله تعالى (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) سبأ /٤٨ _ ٤٩.
وقوله تعالى (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) الأنبياء/١٨.
لا غرابة إذا أن نرى ضمن التفاسير الواردة عن أئمة أهلالبيت عليهم السلام من يفسر الغيب بالإمام المهدي الغائب سلام الله عليه.
يقول الشيخ الصدوق في كمال الدين:
قوله عزوجل “الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب” يعنى بالقائم عليهالسلام وغيبته.
حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل _ رحمه الله _ قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن عمر بن عبد العزيز، عن غير واحد، عن داود ابن كثير الرقي، عن أبي عبدالله عليهالسلام في قول الله عزوجل” هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب “قال: من أقر بقيام القائم عليهالسلام أنه حق.٢
حدثنا علي بن أحمد بن موسي _ رحمه الله _ قال: حدثنا محمد بن أبي عبدالله الكوفي قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسين بن يزيد، عن علي بن أبي حمزة عن يحيى بن أبي القاسم قال:
سألت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام عن قول الله عزو جل” الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب” فقال: المتقون شيعة على عليهالسلام والغيب فهو الحجة الغائب.٣
وشاهد ذلك قوله عز وجل (ويقولون لولا انزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين) فأخبر عز وجل أن الاية هي الغيب، والغيب هو الحجة، وتصديق ذلك قول الله عزو جل: “وجعلنا ابن مريم وأمه آية” يعني حجة.
النبي المنتظر والإيمان بالغيب :
أحد أشهر نماذج الإيمان المنقوص بالغيب هو نموذج اليهود الذين كانوا ينتظرون ظهور النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله في آخرالزمان
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) البقرة ٨٩ _ ٩٠.
إنه إيمان منقوص قائم على الغش والحسد والبغي الذي أهلك الأمم السابقة، إلا أن الدمار الذي ألحقه باليهود كان شديدا وبالغا، وقد سبقه كفرهم بالمسيح عيسى بن مريم سلام الله عليه الذي لقي من هؤلاء الجاحدين أبشع أنواع الإيذاء والعنت.
معنى الإيمان :
بديهي أن الإيمان لا يبنى على الجهل بل على المعرفة التامة، فالإيمان بالله عز وجل كما وصفه أميرالمؤمنين عليهالسلام:
(أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ)،
ومن ثم فالإيمان بالغائب المنتظر لا يتحقق إلا بمعرفة القضية وتفاصيلها كما أن الانتظار هو فعل حتى وإن بدا للناظر فعلا سلبيا، فأنت عندما تنتظر ضيفا يأتي إلى بيتك لن تنشغل عنه بفعل آخر يحول بينك وبين القيام بواجب استقباله وأداء حقه كما يزعم بعض السذج!!
عندما تكون متيقنا أن هناك من سيأتيك بالطعام فلن تقوم بإعداد وجبة طعام أخرى، وعندما يدعوك أحدهم للغذاء فستتهيأ للذهاب معه وسترتدي ثياب الخروج كيلا ينتظرك هو بدلا من انتظارك له وكل هذه بديهيات ومسلمات، أي أن فعل الانتظار له وجهان وجه يتعلق بالمنتظِرِ ووجه يتعلق بالمنتظَرِ.
عندما تكون واثقا بوعد الصديق الآتي فلن تخلد للنوم بل ستتهيأ لاستقباله، هذا لو كنت فردا، إما إذا كنت واحدا ضمن جماعة فستتواصل معهم وتنبههم أو ينبهونك، وهكذا مما لا يحتاج لمزيد من الشرح والتفصيل.
دعك إذا من تلك المقولة الفاشلة التي تزعم أن الاتكال على وعد الظهور المهدوي يلهيك عن العمل الجاد والدؤوب من أجل الإصلاح لأن انتظار الإمام المهدي صاحب الزمان ومظهر الإيمان يغنيك عن المشاريع العشوائية الفاشلة التي تستنفذ جهدك وطاقتك قبل أن تكتشف ولات حين مناص أنك كنت تطارد سرابا بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
يقول تعالى (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) هود/ ٨.
يقول علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية: (ليقولن ما يحبسه) اي يقولون (لا يقوم القائم ولا يخرج)، على حد الاستهزاء فقال الله (الا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن).
اخبرنا احمد بن ادريس قال حدثنا احمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سيف عن حسان عن هشام بن عمار عن أبيه وكان من اصحاب الإمام علي ع عنه ع في قوله تعالى “لئن أخرنا عنهم العذاب إلى امة معدودة ليقولن ما يحبسه “قال الأمة المعدودة أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر.
روى الكليني في الكافي ج٨ /٤٨٧ ، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي خالد، عن أبي جعفر علیه السلام في قول الله عزوجل: “فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا”
قال: الخيرات الولاية وقوله تبارك وتعالى: “أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا” يعني أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلا، قال: وهم والله الأمة المعدودة يجتمعون والله في ساعة واحدة قزع كقزع الخريف.
ما يعنينا في هذا التفسير الذي يتفق مع الرؤية التي نؤمن بها وهي أن مسيرة الأمة الإسلامية نحو التكامل، تلك المسيرة التي لا تكتمل إلا بظهور هذه الأمة الصغيرة التي تشكل قلب الأمة الكبرى،
بدأت ببعثة محمدبن عبدالله صلى الله عليه وآله وما تزال متواصلة حتى ظهور الإمام المهدي محمد بن الحسن عليهالسلام لا بد أن تأخذ الأمة نحو التكامل والرقي، الغاية النهائية للبعثة الإسلامية (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
لماذا يجتمع السلطويون والإسلاميون على المنازعة والتشكيك في الظهور المهدوي؟!.
السبب الأول
حسب رأينا يرجع لرفض هؤلاء وهؤلاء الإقرار بأن بضاعتهم الفكرية والأخلاقية هي بضاعة فاسدة وأنها لم تجلب للأمة طيلة هذه القرون سوى الخسار والبوار.
السبب الثاني
أن الإسلاميين (من يزكون أنفسهم بهذا النسب) يعتزون اعتزازا بالغا بعقولهم التي تكونت على ذات الثقافة المزجاة ويصرون على الانطلاق نحو ما يسمونه إصلاحا انطلاقا من هذه الثقافة الفاشلة حكما، نحو التغيير أملا في إعادة تجريب المجرب!!.
أما السبب الثالث
فهو الحسد الذي توارثه بعض هؤلاء عن آبائهم وأجدادهم وإنكارهم أن من الممكن أن يكون هناك من هو أهدى سبيلا وذلك قوله عز من قائل
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا) النساء ٤٩-٥٠.
الفارق بين أولئك الذين يزكون أنفسهم ويخصون ذواتهم بلقب الإسلاميين من دون سائر المسلمين، وهم يلمزون المؤمنين وينبزونهم بالألقاب ويصفونهم بصفة (الرافضة)
وهم يركضون خلف أئمة الهلاك الذين نشروا الدمار في شتى أركان العالم الإسلامي وذهب بهم الطيش والغرور حد الاستعانة باليهود والأمريكان في مغامراتهم الفاشلة، وبين المؤمنين بالغيب المنتظرين للإمام الحق وهم على معرفة بحق نبيهم وأئمتهم،
أن هؤلاء ضربهم داء الكبر والغرور الذي ضرب إبليس اللعين ودعاه لرفض السجود لآدم عليهالسلام خليفة الله في الأرض بينما يتحلى المؤمنون بالتواضع والإخبات لرب العالمين فهو الذي يزكي من يشاء وهو وحده من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
العبرة التي نستخلصها من كفر اليهود بعيسى بن مريم ثم بنبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله أن الإيمان لا يعني فقط مجرد المعرفة بل التسليم الحقيقي والإخبات لرب العالمين،
فالمعرفة التي جعلتهم يستفتحون على الذين كفروا لم تدفعهم للإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله، حيث حالت شوائب النفس وأمراضها وما جبلت عليه من الغل والحسد، بينهم وبين الإيمان والتسليم عندما جاءهم ما عرفوا.
ربما كان هذا مرتبطا بقلة عدد أصحاب الإمام المهدي سلام الله عليه واقتصارهم على ٣١٣ فرد من بين مئات الملايين الذين يؤمنون بغيبة الإمام وينتظرونه والشيء الثابت أن الإيمان درجات ومراتب وكذا الإخلاص.
الإيمان بالغائب درجات ترتقي ثم ترتقي حتى تبلغ عين اليقين ودونكم انتظار يعقوب سلام الله عليه للغائب المنتظر يوسف فلذة كبده ونور عينيه، يقينا غاب عنه أبناؤه الذين ضيعوا يوسف حيث يصف رب العزة هذا الحال،
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون *يوسف ٨٤
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا ياْيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف ٨٧.
ولو قارنا هذا الوصف القرآني بما قاله الإمام علي بن أبيطالب عليهالسلام (مَا أَطْوَلَ هَذَا الْعَنَاءَ وَ أَبْعَدَ هَذَا الرَّجَاءَ)،
وكلما طال الأمد تباعدت المسافة بين أهل الشك وأهل اليقين الذين يؤمنون بالغيب الآتي بوعد الله لا ريب فيه (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) الروم ٦-٧.
شتان بين من (طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) وبين من طال عليهم أمد العناء وتناوبت عليهم شتى صنوف البلاء فما زادهم ذلك إلا صبرا وثباتا وإيمانا بصدق وعد الله عز وجل
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) آلعمران ١٤٦-١٤٧.
الإيمان بالغيب يعني الإيمان بالغائب المنتظر ويعني أيضا الإيمان والتصديق بوعد الله كما يعني الجهاد استكمالا لشروط الظهور وظروفه وأدواته وهذا قوله تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) الأنفال 60.
يقول العلامة الطبطبائي في تفسير قوله تعالى :
( ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم)
في مقام التعليل لقوله (وأعدوا لهم) أي وأعدوا لهم ذلك لترهبوا وتخوفوا به عدو الله و عدوكم، وفي قوله (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم)
دلالة على أن المراد بالأولين هم الذين يعرفهم المؤمنون بالعداوة لله و لهم، و المراد بهؤلاء الذين لا يعلمهم المؤمنون _ على ما يعطيه إطلاق اللفظ _
كل من لا خبرة للمؤمنين بتهديده إياهم بالعداوة من المنافقين الذين هم في كسوة المؤمنين وصورتهم يصلون ويصومون ويحجون ويجاهدون ظاهرا، و من غير المنافقين من الكفار الذين لم يبتل بهم المؤمنون بعد.
ولو تأملنا واقع المسلمين بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذه الدنيا وبروز حركات الآنحراف (الناكثين والقاسطين والمارقين) وتصدي الإمام علي بن أبيطالب عليهالسلام لهم وقوله
(أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَ اشْتَدَّ كَلَبُهَا فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ وَلَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا وَمُنَاخِ رِكَابِهَا وَمَحَطِّ رِحَالِهَا وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي
وَنَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ وَحَوَازِبُ الْخُطُوبِ لَأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ وَفَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْئُولِينَ وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ وَضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ
إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً أَلَا وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ
عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا وَأَصَابَ الْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وَأَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا وَايْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ تَعْذِمُ بِفِيهَا وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا
وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَتَمْنَعُ دَرَّهَا لَا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لَا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ وَلَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلَّا كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً
لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَلَا عَلَمٌ يُرَى نَحْنُ أهلالبيت مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الْأَدِيمِ بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ
وَلَا يُحْلِسُهُمْ إِلَّا الْخَوْفَ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونِيهِ).٤
ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الْأَدِيمِ…
بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ وَلَا يُحْلِسُهُمْ إِلَّا الْخَوْفَ….
إنه الإمام المهدي عليهالسلام وهؤلاء الأعداء الذين لا تعلمونهم، لكن الله يعلمهم، وهو سبحانه لم يحجب علمه كليا عن خلقه بل ائتمن عليه من يخرجه للناس وقت الحاجة لعلمه والعمل بموجبه وهم الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة من آل محمد.
الآن تبدو أهمية هذه الآية وما حفلت به من آيات مرت مرور الكرام على القارئ غير المتدبر في كتاب الله الذي يكتفي بفهم القرآن فهما ظاهريا بل يمر على بعض الأسئلة التي تطرحها بعض الآيات دون أن يكلف خاطره بمحاولة الحصول على إجابة لها.
لم يكن قتال الحركات المنحرفة التي تنتمي لظاهر الإسلام بالأمر السهل حيث حاول البعض محاولات جادة لاحتوائهم إلا أن الأمور لم تسر كما كان يتمناه المتفائلون ووصلت الأمور الآن لصدام لم يعد من الممكن اجتنابه ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حيي عن بينة.
الخلاصة :
تحدث القرآن الكريم عن الإيمان بالمهدي المنتظر وعن موجبات ظهوره وحتمية الإعداد لهذا الظهور حديثا تفصيليا عميقا بعضه بلغة الرمز وبعضه بلغة لا يفهمها إلا أهل الباطن والعمق.
١. أستاذ بكلية الطب جامعة المنصورة مصر.
٢. کمال الدين و تمام النعمة ج ۱، ص ۱۷.
٣. کمال الدين و تمام النعمة ج ۱، ص ١٧.
٤. نهج البلاغة ، ص ١٣٧.
أضف تعليق